السبعة الذين تكلموا فى المهد
تمهيد:
إن الله على كل شيء قدير ، لا شيء يعوزه ولا جبار يقهره ، ولا تقف قدرته عند حد معلوم ، أو منتهى محدود ، فليس لقدرته نهاية ، وإنما تنطلق قدرته في كل زمان ومكان .
تأمل في الأسباب والمسببات تجد أن الله - عز وجل - جعل المسببات مرتبطة بالأسباب ، فمن أدى الأسباب نال المسببات بإذن الله ، وكلما زاد اتقانا في الأسباب جاءته المسببات على مقدار اتقانه للأسباب .
فمن ذاكر نجح .
ومن زرع حصد .
إلا أن حرية القدرة الإلهية جاءتنا بالعجب العُجاب .
فالأسباب والمسببات بيد الله - وحده - يغيرها ويقلبها كيف يشاء ، فإذا كان النظام السائد أن المسببات تتبع الأسباب ، إلا أن طلاقة القدرة جعلت المسببات تأتي بلا أسباب .
ومثالا لذلك نقول : أن الله خلق البشر جميعا من أب وأم ، إلا أن طلاقة قدرته لا تقف عند هذا الحد :
* فقد خلق إنسان (لا أب ولا أم) ، إنه آدم عليه الصلاة والسلام .
* وخلق إنسانا بلا أم ، إنها حواء عليها السلام .
* وخلق إنسانا بلا أب وله أم ، إنه عيسى عليه الصلاة والسلام .
أما التفكر في مخلوقات الله من نبات وحيوان وحشرات ...... إلخ . وكيفية رعايتها وخلقها فهي إعجاز .
ومن طلاقة القدرة الإلهية أن يتكلم مولود في المهد .
والمهد في اللغة : (مهد الصبي ، ومهد الصبي موضعه الذي يُهيأ له ويوطَّأ لينام فيه ... والجمع "مهود") .
والمقصود : أن يُنطِق الله المولود في وقت لم يتكلم الأطفال فيه ، وهو وقت الرضاع .
عيسى اب مريم -عليه السلام
(فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً {29} قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً {30} وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً {31} وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً {32} وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً {33} سورة مريم .
لا شك أن عيسى - عليه السلام - تكلم في المهد كما جاء في سورة مريم أعلاه . وكما قال رسول الله (ص) : (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى بن مريم ...... إلخ . (رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء في بابين رقم (3436) ، ومسلم في كتاب / البر والصلة - باب : تقديم بر الوالدين على التطوع ، وأحمد (2/395 ، 385 ، 433 ، 434) .
إلا أن العلماء اختلفوا في بداية نكلم عيسى - عليه السلام - في المهد .
هل كان عندما كان في شرقي المسجد الأقصى ؟
أو كان عندما رجعت مريم ومعها ولدها ودخلت على قومها ؟
وإليك البيان : قال الله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً {16} فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً {17} قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً {18} قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً {19} قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً {20} قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً {21} فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً {22} فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً {23} فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً {24} وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً {25} فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً {26} فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً {27} يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً {28} فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً {29} قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً {30} وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً {31} وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً {32} وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً {33} سورة مريم .
أما التفاصيل والشروحات والبيان فننصح بالرجوع إلى الكتاب المصدر أو المصنفات العديدة في ذلك ، ولكن نحب أن نشيرهنا إلى أن بعض الاختلافات في القراءات مثل : (فناداها "مَن" تحتها بفتح الميم ، وقُرِأَ بكسر الميم "مِن" نافع وحمزة والكسائي وحفص (تفسير الرازي (10/434) ، والقرطبي (11/93) ، وابن كثير (3/117) .
وفى المنادى ثلاثة اوجه:
* الأول : أنه عيسى - عليه السلام - وهو قول الحسن وسعيد بن جبير .
* الثاني : أنه جبريل - عليه السلام - وأنه كان كالقابلة للولد ، وهو الأظهر وبه قال الاكثر .
* والثالث : أنّ المُنادى على القراءة بالكسر هو الملك وعلى القراءة بالفتح هو عيسى - عليه السلام - وهو مروي عن ابن عُيينة وعاصم .
والقول بأن عيسى هو المُنادى هو الأقرب لوجوه :
* الأول : أن قوله (فناداها مَن تحتها) بفتح الميم إنما يُستعمل إذا كان قد علم قبل ذلك أن تحتها أحدا ، والذي عُلم كونه حاصلا تحتها هو عيسى - عليه السلام - فوجب حمل اللفظ عليه ، أما القراءة بكسر الميم فهي لا تقتضي كون المنادي جبريل - عليه السلام - فقد صحّ قولنا .
* والثاني : أنَّ ذلك الموضع موضع اللوث والنظر إلى العورة وذلك لا يليق بالملائكة .
* والثالث : أنَّ قوله : (فناداها) فعل ولا بد أن يكون فاعله قد تقدَّم ذكره ، ولقد تقدم قبل هذه الآية ذكر جبريل وذكر عيسى - عليهما السلام - إلا أن ذكر عيسى أقرب لقوله تعالى : (فحملته فانتبذت به) والضمير ههنا عائد إلى المسيح فكان حمله عليه أولى .
* والرابع : وهو دليل الحسن بن علي - عليه السلام - أن عيسى - عليه السلام - لو لم يكن كلمها لما علمت أنه ينطق ، فما كانت تُشير إلى عيسى - عليه السلام - بالكلام (تفسير الرازي) .
ونحن موقع الأرقام ننصح أيضا بمطالعة خواطر العلامة الفاضل محمد متولي الشعراوي حول هذا الموضوع لما يحتويه من شروحات واستنباطات شيقة ومفيدة .
صاحب جُريج
صاحب جُريج
قال : "فلان الراعي" أنا ابن الراعي .
غلام جُريج
عن أبي هريرة عن النبي (ص) قال : "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى بن مريم ، وصاحب جُريج ، وكان جُريج رجلا عابدا ، فاتخذ صومعة ، فكان فيها ، فأتته أمه وهو يُصلّي ، فقالت : يا جُريج ، فقال : يا رب ، أمي وصلاتي ، فأقبل على صلاته فانصرفت .
فلما كان من الغد ، أتته وهو يصلي ، فقالت : يا جُريج ، فقال : أي ربِّ أمي وصلاتي ، فأقبل على صلاته ، فقالت : اللهم لا تُمِته حتى ينظر إلى وجوه المومِسات .
فتذاكر بنوا إسرائيل جُريجًا وعبادته ، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها ، فقالت : إن شئتم لأفتننه لكم" .
قال : فتعرضت له ، فلم يلتفت إليها ، فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته ، فأمكنته من نفسها ، فوقع عليها ، فحَمَلت ، فلما ولَدَتْ ؛ قالت : هو من جُريج ، فأتوه ، فاستنزلوه ، وهدموا صومعته ، وجعلوا يضربونه ، فقال : ما شأنكم ؟ قالوا : زنيت بهذه البغي فولدت منك ، فقال : أين الصبي ؟ (اسم هذا الغلام يابوس كما جاء مصرحا به في رواية البخاري) ، فجاءوا به ، فقال : دعوني حتى أُصلِّي ، فصلى فلما انصرف ؛ أتى الصبي فطعن في بطنه ، وقال : يا غلام ، من أبوك : قال : فلان الراعي .
قال : فأقبلوا على جُريح يقبلونه ويتمسحون به ، وقالوا : نبني لك صومعتك من ذهب ، قال : لا أعيدوها كما كانت ، ففعلوا .
وبينا صبي يرضع من أمه ، فمرّ رجل راكب على دابة فارهة ، وشارة حسنة ، فقالت امه : اللهم اجعل ابني مثل هذا ، فترك الثدي وأقبل إليه ، فنظر إليه فقال : اللهم لا تجعلني مثله ، ثم أقبل على ثديه ، فجعل يرتضع .
قال : فكأني انظر إلى رسول الله (ص) وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السبابة في فمه ، فجعل يمصُّها .
قال : ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون : زنيتِ سَرقتِ ، وهي تقول : حسبي الله ونعم الوكيل . فقالت أمه : اللهم لا تجعل ابني مثلها فترك الرضاع ، ونظر إليها ، فقال : اللهم اجعلني مثلها . (هناك حديث آخر مشابه أخرجه البخاري (3436) ، وأخرجه أحمد ، ومسلم ، وأبو يعلى ، والبيهقي ، وابن أبي الدنيا) .
ابن امرأة الأخدود
عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " كان ملك فيمن كان قبلكم ، و كان له ساحر ، فلما كبر قال للملك : إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر ، فبعث إليه غلاماً يعلمه ، و كان في طريقه إذا سلك راهب ، فقعد إليه و سمع كلامه فأعجبه ، و كان إذا أتى الساحر مر بالراهب و قعد إليه ، فإذا أتى الساحر ضربه ، فشكا ذلك إلى الراهب فقال : إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي و إذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر .
فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس ، فقال : اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل ...
فأخذ حجراً فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس ، فرماها فقتلها و مضى الناس ...
فأتى الراهب فأخبره ، فقال له الراهب أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى ، وإنك ستُبتلى ، فإن إبتليت فلا تدل علي ...
و كان الغلام يبرئ الأكمه و الأبرص ، و يداوي الناس من سائر الأدواء فسمع جليس للملك و كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال ما ههنا لك أجمع ، إن أنت شفيتني ، فقال إني لا أشفي أحداً .إنما يشفي الله تعالى ، فإن آمنت بالله تعالى دعوت الله فشفاك فآمن بالله تعالى فشفاه الله تعالى .
فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك : من رد عليك بصرك ..؟
قال ربي قال ولك رب غيري ؟..! .. قال ربي و ربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام...
فقال له الملك : أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ منه الأكمه و الأبرص و تفعل و تفعل فقال : إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله تعالى ... فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب فجيء بالراهب فقيل له إرجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ، ثم جيء بجليس الملك فقيل له إرجع عن دينك فأبى ، فوضع المنشار في مفرق رأسه ، فشقه به حتى وقع شقاه ..
ثم جيء بالغلام فقيل له إرجع عن دينك فأبى ، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال إذهبوا به إلى جبل كذا و كذا فاصعدوا به الجبل ، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه ، و إلا فاطرحوه فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال اللهم إكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا ، و جاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك ما فعل بأصحابك فقال كفانيهم الله تعالى ...
فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال إذهبوا به فاحملوه في قرقور و توسطوا به البحر ، فإن رجع عن دينه و إلا فاقذفوه فذهبوا به فقال اللهم إكفنيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا .و جاء يمشي إلى الملك ... فقال له الملك ما فُعل بأصحابك فقال كفانيهم الله تعالى ...
فقال للملك أنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال ما هو ؟ ..
قال تجمع الناس في صعيد واحد و تصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل : بسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ...
فجمع الناس في صعيد واحد و صلبه ثم أخذ سهماً من كنانته ، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال : بسم الله رب الغلام ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه فمات...
فقال الناس آمنا برب الغلام ...
فأُتي الملك فقيل له أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حَذَرُك ، قد آمن الناس . فأمر بالأخدود بأفواه السكك فخُدَّت و أضرم فيها النيران و قال : من لم يرجع عن دينه فأقحموه ففعلوا حتى جاءت إمرأة و معها صبي لها ، فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام : يا أماه اصبري فإنك على الحق . (رواه مسلم في الزهد باب قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام ، وأحمد (6/17 ، 18) ، والنسائي في الكبرى كما في التحفة (4/198) ، والطبراني في الكبير (7319 ، 732) ، وعبد الرزاق في المصنف (9751) ، وابن حبان (873) ، والترمذي (3340) .
الصبي الرضيع
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلا عابدا، فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جريج، فقال: يا رب، أمي وصلاتي؟ فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمي وصلاتي؟ فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته (وهو يصلي) فقالت: يا جريج، فقال: أي رب أمي وصلاتي؟ فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات، فتذاكر بنو اسرائيل جريجا وعبادته، وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها، فقالت: ان شئتم لأفتننه لكم. قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيا كان يأوي الى صومعته فأمكنته من نفسها، فوقع عليها، فحملت، فلما ولدت قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه، وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه. فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك. فقال: أين الصبي؟ فجاؤوا به. فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتي الصبي فطعن في بطنه وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي. قال: فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب وفضة. قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت. ففعلوا، وبينا صبي يرضع من أمه، فمر رجل راكب على دابة فارهة، وشارة حسنة، فقالت أمه: اللهم اجعل ابني مثل هذا، فترك الثدي واقبل إليه، فنظر إليه فقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم اقبل على ثديه، فجعل يرتضع - قال: فكأني انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه باصبعه السبابة في فمه فجعل يمصها - قال: ومروا بجارية وهم يضربونها، ويقولون: زنيت سرقت، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك الرضاع ونظر إليها فقال: اللهم اجعلني مثلها، فهناك تراجعا الحديث، فقالت: حلقى، مر رجل حسن الهيئة فقلت: اللهم اجعل ابني مثله، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله! ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون: زنيت سرقت، فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقلت: اللهم اجعلني مثلها! قال: ان ذاك الرجل كان جبارا، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وان هذه يقولون لها: زنيت ولم تزن، وسرقت ولم تسرق، فقلت: اللهم اجعلني مثلها».
(المهد) هو الفراش الذي ينام به المولود حال صـــغره، والمراد هــــنا حال الصغر قبـــــــل أوان الكلام. (صاحب جريج) أي الطفل الذي تكلم بسببه.
(بغي) زانية. (يتمثل) يتعجب منه ويضرب به المثل. (فارهة) نشيطة قوية، (شارة) هيئة ولباس، أو حسن وجمال. (بجارية) امرأة مملوكة. (حلقى) كلمة تقال عند التعجب من شيء ولا يراد بها أصل معــــناها الذي هو: أصــــــابك الله بوجع في حلقك.
المومسات: جمع مومس وهي الزانية المجاهرة بزناها.
الحديث ذكر لنا ثلاثة أمثلة تتفق في معنى واحد، وهو كلام الانسان في اوائل حياته الدنيا وقبل ان يبلغ مبلغا يتكلم فيه فهو امر خارق للعادة والمألوف، ولكنه لا يتنافى مع العقل، ولاسيما عقل المؤمن بالله عز وجل وانه القادر على ان ينطق الحجر، فمن باب أولى ان ينطق مَنْ مِنْ شأنه النطق في وقت غير مألوف منه ذلك ولا معتاد، وهذا الأمر الخارق للعادة يكون معجزة للأنبياء، أي دليلا وبرهانا على صدق دعواهم النبوة، وتأييدا من الله تعالى فيما يدعون إليه الخلق من المكلفين، كما يكون كرامة لغير الانبياء، لاقامة الحجة على من عصى الله تعالى، واعانة لمن صدق مع الله عز وجل، واظهار للحق على الباطل.
ابن ماشطة بنت فرعون
مسند أحمد- كتاب ومن مسند بني هاشم
حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الضَّرِيرُ أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي أُسْرِيَ بِي فِيهَا أَتَتْ عَلَيَّ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ فَقَالَ هَذِهِ رَائِحَةُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلَادِهَا قَالَ قُلْتُ وَمَا شَأْنُهَا قَالَ بَيْنَا هِيَ تُمَشِّطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ سَقَطَتْ الْمِدْرَى مِنْ يَدَيْهَا فَقَالَتْ بِسْمِ اللَّهِ فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ أَبِي قَالَتْ لَا وَلَكِنْ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ اللَّهُ قَالَتْ أُخْبِرُهُ بِذَلِكَ قَالَتْ نَعَمْ فَأَخْبَرَتْهُ فَدَعَاهَا فَقَالَ يَا فُلَانَةُ وَإِنَّ لَكِ رَبًّا غَيْرِي قَالَتْ نَعَمْ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ فَأَمَرَ بِبَقَرَةٍ مِنْ نُحَاسٍ فَأُحْمِيَتْ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُلْقَى هِيَ وَأَوْلَادُهَا فِيهَا قَالَتْ لَهُ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً قَالَ وَمَا حَاجَتُكِ قَالَتْ أُحِبُّ أَنْ تَجْمَعَ عِظَامِي وَعِظَامَ وَلَدِي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَتَدْفِنَنَا قَالَ ذَلِكَ لَكِ عَلَيْنَا مِنْ الْحَقِّ قَالَ فَأَمَرَ بِأَوْلَادِهَا فَأُلْقُوا بَيْنَ يَدَيْهَا وَاحِدًا وَاحِدًا إِلَى أَنْ انْتَهَى ذَلِكَ إِلَى صَبِيٍّ لَهَا مُرْضَعٍ وَكَأَنَّهَا تَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِهِ قَالَ يَا أُمَّهْ اقْتَحِمِي فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَاقْتَحَمَتْ
قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ صِغَارٌ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ وَشَاهِدُ يُوسُفَ وَابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ أَخْبَرَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ مَرَّتْ بِهِ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَذَكَرَ نَحْوَهُ حَدَّثَنَا حَسَنٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ مَرَّتْ بِهِ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ فَذَكَرَ مَعْنَاهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ مَنْ رَبُّكِ قَالَتْ رَبِّي وَرَبُّكَ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ
سنن ابن ماجه- كتاب الفتن
حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ وَجَدَ رِيحًا طَيِّبَةً فَقَالَ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ قَالَ هَذِهِ رِيحُ قَبْرِ الْمَاشِطَةِ وَابْنَيْهَا وَزَوْجِهَا قَالَ وَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَضِرَ كَانَ مِنْ أَشْرَافِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ مَمَرُّهُ بِرَاهِبٍ فِي صَوْمَعَتِهِ فَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرَّاهِبُ فَيُعَلِّمُهُ الْإِسْلَامَ فَلَمَّا بَلَغَ الْخَضِرُ زَوَّجَهُ أَبُوهُ امْرَأَةً فَعَلَّمَهَا الْخَضِرُ وَأَخَذَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تُعْلِمَهُ أَحَدًا وَكَانَ لَا يَقْرَبُ النِّسَاءَ فَطَلَّقَهَا ثُمَّ زَوَّجَهُ أَبُوهُ أُخْرَى فَعَلَّمَهَا وَأَخَذَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تُعْلِمَهُ أَحَدًا فَكَتَمَتْ إِحْدَاهُمَا وَأَفْشَتْ عَلَيْهِ الْأُخْرَى فَانْطَلَقَ هَارِبًا حَتَّى أَتَى جَزِيرَةً فِي الْبَحْرِ فَأَقْبَلَ رَجُلَانِ يَحْتَطِبَانِ فَرَأَيَاهُ فَكَتَمَ أَحَدُهُمَا وَأَفْشَى الْآخَرُ وَقَالَ قَدْ رَأَيْتُ الْخَضِرَ فَقِيلَ وَمَنْ رَآهُ مَعَكَ قَالَ فُلَانٌ فَسُئِلَ فَكَتَمَ وَكَانَ فِي دِينِهِمْ أَنَّ مَنْ كَذَبَ قُتِلَ قَالَ فَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ الْكَاتِمَةَ فَبَيْنَمَا هِيَ تَمْشُطُ ابْنَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ سَقَطَ الْمُشْطُ فَقَالَتْ تَعِسَ فِرْعَوْنُ فَأَخْبَرَتْ أَبَاهَا وَكَانَ لِلْمَرْأَةِ ابْنَانِ وَزَوْجٌ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَرَاوَدَ الْمَرْأَةَ وَزَوْجَهَا أَنْ يَرْجِعَا عَنْ دِينِهِمَا فَأَبَيَا فَقَالَ إِنِّي قَاتِلُكُمَا فَقَالَا إِحْسَانًا مِنْكَ إِلَيْنَا إِنْ قَتَلْتَنَا أَنْ تَجْعَلَنَا فِي بَيْتٍ فَفَعَلَ فَلَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ رِيحًا طَيِّبَةً فَسَأَلَ جِبْرِيلَ فَأَخْبَرَهُ
شرح سنن ابن ماجه للسندي
قَوْله ( بَدْء ذَلِكَ )
أَيْ اِبْتِدَاؤُهُ وَسَبَبه
( مَمَرّه بِرَاهِبٍ )
يَدُلّ عَلَى وُجُود الرَّاهِبِينَ قَبْل زَمَان عِيسَى
( فَعَلَّمَهَا )
مِنْ التَّعْلِيم أَيْ عَلَّمَهَا الْإِسْلَام
( أَنْ لَا تُعَلِّمهُ )
مِن الْإِعْلَام أَيْ لَا تُخْبِر أَحَدًا بِأَنَّ فُلَانًا عَلَّمَنِي هَذَا
( لَا يَقْرَب )
مِنْ قَرِبَ كَسَمِعَ
قَوْله ( فَتَزَوَّجَ )
أَيْ الْكَاتِم
( الْمُشْط )
بِتَثْلِيثِ الْمِيم وَسُكُون الشِّين وَهُوَ آلَة يُمَشَّط بِهَا
( تَعِسَ )
كَسَمِعَ أَيْ هَلَكَ وَهُوَ دُعَاء عَلَيْهِ بِالْهَلَاكِ
( فَرَاوَدَ الْمَرْأَة )
أَيْ أَكْثَر الذَّهَاب وَالْمَجِيء إِلَيْهَا وَفِي الزَّوَائِد فِي إِسْنَاده سَعِيد بْن بَشِير قَالَ فِيهِ الْبُخَارِيّ يَتَكَلَّمُونَ فِي حِفْظه وَهُوَ يُحْتَمَل وَقَالَ أَبُو حَاتِم سَمِعْت أَبِي وَأَبَا زَرْعَة قَالَا مَحِلّه الصِّدْق عِنْدنَا قُلْت يُحْتَجّ قَالَا لَا وَضَعَّفَهُ غَيْرهمْ
ابن رجل اليمامه
"أنت رسول الله" .
قال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبدان ثنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا محمد بن يونس الكديمي، ثنا شاصونة بن عبيد أبو محمد اليمامي وانصرفنا من عدن بقرية يقال لها: الحردة -حدثني معرض بن عبد الله بن معرض بن معيقيب اليماني، عن أبيه، عن جده، قال: حججت حجة الوداع، فدخلت دارا بمكة فرأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه مثل دارة القمر، وسمعت منه عجبا، جاءه رجل بغلام يوم ولد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنا؟" قال: أنت رسول الله. قال: "صدقت بارك الله فيك" . قال: ثم قال إن الغلام لم يتكلم بعد ذلك حتى شب قال أبي: فكنا نسميه مبارك اليمامة قال شاصونه: وقد كنت أمر على معمر فلا اسمع منه. قلت : هذا الحديث مما تكلم الناس في محمد ابن يونس الكديمي بسببه وأنكروه عليه واستغربوا شيخه هذا وليس هذا مما ينكر عقلا بل ولا شرعا، فقد ثبت في "الصحيح" في قصة جريج العابد أنه استنطق ابن تلك البغى فقال له: يا بابوس ابن من أنت؟ قال ابن الراعي فعلم بنو إسرائيل براءة عرض جريج مما كان نسب إليه وقد تقدم ذلك.
على أنه قد روى هذا الحديث من غير طريق الكديمي إلا أنه بإسناد غريب أيضا، قال البيهقي: أنا أبو سعد عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد، أنا أبو الحسين محمد بن أحمد ابن جميع الغساني بثغر صيدا ثنا العباس بن محبوب بن عثمان بن عبيد أبو الفضل، ثنا أبي، ثنا جدي شاصونة بن عبيد حدثني معرض بن عبد الله بن معيقيب، عن أبيه، عن جده قال: حججت حجة الوداع، فدخلت دارا بمكة فرأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه كدارة القمر، فسمعت منه عجبا، أتاه رجل من أهل اليمامة بغلام يوم ولد، وقد لفه في خرقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا غلام من أنا؟" قال: أنت رسول الله. فقال له: "بارك الله فيك" ثم إن الغلام لم يتكلم بعدها. قال البيهقي: وقد ذكره شيخنا أبو عبد الله الحافظ، عن أبي الحسن علي بن العباس الوراق، عن أبي الفضل أحمد بن خلف بن محمد المقرئ القزويني عن أبي الفضل العباس بن محمد بن شاصونة به قال الحاكم: وقد أخبرني الثقة من أصحابنا، عن أبي عمر الزاهد قال: لما دخلت اليمن دخلت حردة فسألت عن هذا الحديث فوجدت فيها لشاصونة عقبا وحملت إلى قبره فزرته.
h
قال البيهقي: ولهذا الحديث أصل من حديث الكوفيين بإسناد مرسل يخالفه في وقت الكلام ثم أورد من حديث وكيع عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن بعض أشياخه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بصبي قد شب لم يتكلم قط قال: "من أنا؟" قال: أنت رسول الله. ثم روى عن الحاكم عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن بعض أشياخه قال: جاءت امرأة بابن لها قد تحرك فقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا لم يتكلم منذ ولد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أدنيه مني" فأدنته منه. فقال: "من أنا؟" فقال: أنت رسول الله
شاهد سيدنا يوسف
أحداث قصة سيدنا يوسف ( عليه السلام ) في مراحلها المختلفة ومواقفها المتباينة حتى نتبيّن قضية (الإخفاء والإبانة) التي يقوم عليها البناء القصصي في سورة يوسف (عليه السلام ) والتي أشارت إليها ، في براعة ودقة، كلمة ( المبين ) التي جاءت في مطلع السورة .
- يتفق المفسّرون على أن سبب نزول سورة يوسف، هو طلب اليهود من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن يحدثهم بخبر يوسف عليه السلام، وهم يعلمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب ولا يعلم من أمر يوسف شيئاً. إذاً فالأمر خفيٌّ عليه مستور عنه ، وجاءت السورة كشفاً وتبياناً لما خفي على رسول الله من أمر يوسف (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)وفي قوله تعالى ( لمن الغافلين ) جاء التوكيد باللام ليدل على تأكيد غياب هذا الأمر عن رسوله كلّياً ، فلم يقل الله سبحانه ( لمن الجاهلين ) لأنني قد أجهل الأمر وأكون قد سمعت به ، فأنا أسمع مثلاً عن علم الذرة لكنني أجهله ، أما أن أكون غافلاً عنه، فمعنى ذلك أنه لم يخطر في بالي مطلقاً فالغفلة عن الأمر أشد تغييباً له من الجهل به .
لذا فإن رسول الله كان ( غافلاً ) عن أمر يوسف تماماً، وهنا عندما تأتي السورة بقصة يوسف على ما جاءت عليه من التفصيل والدقة فإن ذلك معناه أن هذا الكلام ليس من النبي وإنما هو وحي من الله (بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ ) . إذاً فالكتاب المبين سيُظهر ما خفي عن النبي (ص) ويقصّ عليه قصة يوسف عليه السلام .
- تبدأ القصة بذكر الرؤيا على لسان يوسف (يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)والرؤيا أمر يراه النائم، غالباً ما يكون رمزاً وإشارة ودلالة ( كما جاء في رؤيا سيدنا يوسف عليه السلام ) والرمز أمر غامض خفيّ يحتاج إلى بيان وإظهار وكشف ، وتأويل رؤيا يوسف يعني فكّ رموزها المستورة، وبيان مدلولاتها الخفية. ولذا جاء تأويل سيدنا يعقوب رؤيا ابنه على أنها النبوة إظهاراً وكشفاً لما جاء رمزاً غامضاً.
إذ قال سيدنا يعقوب (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، إذاً أوّل سيدنا يعقوب رؤيا ابنه يوسف على أنها النبوة، وأن ما جاء في الرؤيا من إشارات هو من علامات تلك النبوة.
لكن من يستمع إلى القصة يُفاجأ بقول سيدنا يعقوب (يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) إذ يتساءل من يستمع إلى هذا القول: ما شأن إخوة يوسف حتى يكيدوا لأخيهم ويمكروا به ولا يفرحوا ويسرُّوا برؤياه ، ورؤياه تعني العز والمجد والسلطان، وإن نال أخوهم هذا الشرف فلا بدّ أن يكون لهم نصيب منه ..؟؟
الله يعلم أن هذا الأمر سيثير تساؤلاً في نفس السامع فيأتي قوله تعالى (لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ) ورداً على التساؤل حول موقف إخوة يوسف، يقول الله تعالى (إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ)
أراد الله تعالى أن يبيّن لنا ما خفي علينا من موقف إخوة يوسف حسب ما جاء على لسان سيدنا يعقوب، فجاءت علة هذا الموقف وسببه على لسان إخوة يوسف.
- الآن إخوة يوسف يفكّرون بطريقة للتخلص من يوسف حتى يخلو لهم وجه أبيهم .
ثمة اقتراحات ثلاثة وردت على ألسنتهم :
1- اقْتُلُواْ يُوسُفَ : والقتل إخفاء وتغييب لا إظهار بعده فالقتيل يوارى ثم قد لا يظهر أمره بعد ذلك .
2- أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا: أي ارموه في أرض واسعة وهذا إظهار لا تغييب فيه ولا إخفاء ، إلا على احتمال أن يفترسه وحش ضارٍ، وهذا مجرد احتمال لا تبدو دلائله في قولهم ( أو اطرحوه أرضاً ) . ثم إنّ هذا الاقتراح هو انتقال من موقف سلبي إلى موقف أقل سلبية ( من القتل إلى النبذ في أرض مجهولة ) ، ولو كان طرح يوسف في أرضٍ يقتضي بالضرورة أن تنال منه الوحوش الضارية ، لتساوى هذا الاقتراح مع القتل، ولا داعي عندها لوجود ( أو ) العاطفة، التي تفيد التخيير بين أمرين متغايرين، مختلفين ( اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا ).
3- وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ( إخفاء )يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ( إبانة) وشاءت حكمة الله تعالى أن يكون قرارهم فيما يفعلونه قائماً على مبدأ الإخفاء والستر ثم الإظهار والإبانة والكشف.
- في لحظة التغييب والإخفاء (فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ) يطمئن الله سيدنا يوسف بأن الأمر الذي يحاولون إخفاءه سوف يظهر ويُكشف (وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ )
ويأتي الإظهار والإبانة بعد التغييب (وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ ) إن ما أريد له أن يختفي ويستر، كشفه الله تعالى وأبانه، وخرج سيدنا يوسف من البئر .
- غير أن السيّارة الذين وجدوا سيدنا يوسف لم يحملوه بشكل ظاهر علنيّ، مخافة أن يطالب به أحد من ذويه إن كان حرّاً ، أو يدّعي ملكيته سيّد إن كان عبداً ، لذا ( أَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ) ، أي أنهم قاموا بإخفائه بنيّة بيعه، وهذا إخفاء وستر، سيتبعه كشف وإبانة حين يصلون إلى مصر ويبيعونه .
- ها هو يوسف (عليه السلام) وقد بلغ أشدّه، تراوده امرأة العزيز،وتغريه بارتكاب الفاحشة، والأمر يتطلب الإخفاء والستر(وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ)،ولمّا أبى يوسف ( عليه السلام ) النزول عند رغبتها، وكبر عندها ذلك، كان أول ما فعله سيدنا يوسف وكذلك امرأة العزيز هو الاتجاه إلى الأبواب المغلقة يوسف ليفتحها و امرأة العزيز لعدم تمكينه من ذلك، (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ) ، فالباب الذي أغلق على أنه وسيلة من وسائل الإخفاء والستر، هو الآن أداة من أدوات الإظهار والكشف…
- وتسارع امرأة العزيز باتهام يوسف بأنه أراد بها الفاحشة، وأرادت بذلك ستر الحقيقة وتغييبها ، لكن وجود شاهد من أهلها واقتراحه أن يُنظر في القميص هل قدَّ من قبل فتكون امرأة العزيز صادقة أم من دبر فتكون من الكاذبين ، هذا الشاهد كان أداة الكشف والإظهار التي أبانت براءة يوسف وعفّته .
- ولمّا شاع الخبر بين الناس ، ووصل إلى امرأة العزيز أن نسوة في المدينة يتحدثن عنها ويلمنها على مراودتها فتاها ، أرادت أن تكيد لهن وتطلعهن على حُسْنِ يوسف وجماله حتى لا يلمنها ، لكنها لم تُجلس يوسف في مكان ما ثم تحضر النسوة ليرينه ، وإنما اختارت أن تخفيه عن نواظرهن ثم تظهره وتبيّنه لهن ، فأخفت يوسف عليه السلام (وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) وهذه إبانة بعد إخفاء. و بها بيّنت امرأة العزيز للنسوة ما كان خافياً عليهن من سبب مراودة يوسف عن نفسه .
- ثم يدخل يوسف السجن ، وتعرض لنا القصة قضية الرؤيا هنا مرتين :
أ -حين يسأله فَتَيان كانا معه في السجن عن رؤياهما فيؤول لكل فتى منهما رؤياه .
ب _وحين يؤول رؤيا الملك في (سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ) وذلك بعد إخراجه من السجن.
والرؤيا -كما قلنا- رمز موحٍ وإشارة دالة ، يكتنفهما شيء من الغموض والستر وتأويل الرؤيا كشف وإظهار وإبانة .
ثم إن دخول يوسف السجن ( تغييب وإخفاء ) ثم خروجه منه ( إظهار وإبانة ). لكن يوسف ( ع ) لم يكن ليرضى أن يخرج من السجن وما زال في قضية امرأة العزيز والنسوة اللواتي قطعن أيديهن لبس أو غموض، فطلب أن يعاد النظر في الأمر حتى يُعلن ما كان خافياً، ويظهر ما كان مستوراً. فلما سئلت النسوة عن الأمر (قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ) وأما امرأة العزيز فقد قالت (الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ )
وحصحص تعني _ لغوياً _ ظهر وانكشف بعد خفاء. والحصحصة : بيان الحقّ بعد كتمانه ( لسان العرب م7/ ص16 ) .
- ويجعل الملكُ سيدَنا يوسف على خزائن الأرض، ويأتي إليه إخوته ليكتالوا في السنوات المجدبة (فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) .
وهكذا خفيت شخصية يوسف على إخوته ولم يعرفوه ، وهذا الإخفاء سيتبعه بيان في نهاية الأمر حين يكشف يوسف عن شخصيته (قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ * قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا).
- موقف آخر تبدو فيه قضية الإخفاء والإبانة واضحة جليّة ، وذلك حين أراد يوسف أن يستبقي أخاه ( بنيامين ) لديه في مصر، حتى يذهب إخوته ويحضروا أباهم معهم ، فعمد سيدنا يوسف إلى الصواع ( وهو ما يُكال به ) فجعله في رحل أخيه ثم نادى منادٍ في العير ( إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) ولمّا فتشت الرِّحال استخرج الصواع من رحل أخيه بنيامين، فأبقاه معه بهذه الحجة . وهذه الحيلة فيما نرى تعتمد الإخفاء والستر ثم الإظهار والكشف .
- ها هو سيدنا يعقوب (عليه السلام) حين يعود أولاده من مصر دون ( بنيامين ) شقيق يوسف يحزن عليه حزناً شديداً ، ويتذكر مصابه بيوسف، فيفقد بصره، وفاقد البصر تخفى عليه مظاهر الأشياء. لكن قميص يوسف الذي حُمل إلى سيدنا يعقوب من مصر، وألقي على وجهه يعيد إليه بصره الذي فقده ، وإذا كان فَقْد البصر ( غياب وستر وإخفاء للأشياء ) فإن الإبصار من بعد ذلك( حضور لما غاب ، وكشف لما سُتر، وإبانة لما أُخفي ) .
- وتنتهي قصة يوسف بسجود أبويه وإخوته له، تأويلاً لرؤياه التي جاءت في بداية القصّة ، فالرؤيا التي بدأت رمزاً وإشارة ودلالة ، وهي أمور خفية غامضة تعتمد الإيحاء، ها هي الآن تنكشف وتظهر لا تأويلاً لفظياً مثلما فعل سيدنا يعقوب أوّّل القصة، وإنما فعلاً حقيقياً وواقعاً ملموساً ، ليقول يوسف في نهاية الأمر (يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) .
إذاً فإن الأحداث كلها في قصة يوسف ( عليه السلام ) تقوم على مبدأ الإظهار والإبانة ، ومن هنا نتبين الغاية البلاغية من استهلال السورة بقوله تعالى (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ) ، إذ جاء وصف القرآن بالمبين مؤشراً دلالياً على الخط الذي تقوم عليه الأحداث في البناء القصصي لـ سورة يوسف .